أخبار عاجلة
عاجل| قطع المياه عن بعض المناطق الحيوية من ... -

العلامة محمد بن تاويت الطنجي .. رائد في إحياء التراث العربي والإسلامي

العلامة محمد بن تاويت الطنجي .. رائد في إحياء التراث العربي والإسلامي
العلامة محمد بن تاويت الطنجي .. رائد في إحياء التراث العربي والإسلامي

تسلط الدكتورة نجاة المريني، الأستاذة الفخرية بجامعة محمد الخامس، الضوء على حياة وإنجازات العلامة محمد بن تاويت الطنجي، أحد أبرز الباحثين والمحققين في التراث العربي والإسلامي.

من خلال مقال “العلامـة محمد بن تاويت الطنجي.. إضاءات حول شخصيـته وتراثــه”، تقدم المريني إضاءات عميقة حول شخصية الطنجي وإسهاماته الكبيرة في تحقيق المخطوطات التراثية، مشيرة إلى جهوده الجبارة في إحياء النصوص القديمة التي كانت مكدسة في رفوف المكتبات العربية والتركية.

وبالرغم من مكانته المرموقة في هذا المجال، لم يحظَ الطنجي بالاهتمام الكافي، مما يجعل من الضروري إعادة التعريف بعطائه العلمي وإسهاماته التي أثرت المشهد الفكري العربي والإسلامي بشكل كبير.

اســتهــلال

محمد بن تاويت الطنجي من الأعلام الباحثين المحققين في العالم العربي والإسلامي، عَــَرفَـتْه مراكز البحث منقبا عن ذخائر المخطوطات العربية في الخزانات المغربية والمصرية والتركية، باحثا عـن دُرَر هذا التراث، مكـتشفا لمكنوناته بروية وحسن تدبر، وقد أمْلَتْ عليه قراءاتُه الأولية ومداومتُه عليها أن أصبح من خبراء التراث الإسلامي، مقتفيا خطى محـقـقي النصوص العربية في مصر من أمثال الشيخ محمود شاكر وعبد السلام هارون وغيرهما.

ولولوعه بهذه المخطوطات كمادة أولية للبحث والدرس، انصبَّ عمله على تفكيك خيوطها وفك رموزها وتتبع مظانها في الخزانات العربية والتركية، متنقلا من منطقة إلى أخرى، وازعُهُ تحقيقُ ما شغـفه منها لـيـزرع فيه حياةً جديدة بعد أن عاش نكسة الغبن ـــ أي غـبن المخطوط ــ في عصور سابقة وبقي ركاما في رفوف هذه الخزانات، فأحيا ما استطاع إحياءَه بجهد الباحث المحقق؛ الشغوف بما كان لهذا التراث من مكانة في صناعة حضارة الثقافة الإسلامية والعربية في عصور سابقة باقتدار وكفاءة وجرأة وشجاعة، فعَالَـمُ تحقيق النصوص التراثية ليس ميسرا للجميع، ولا يُـبْحـرُ فيه إلا من توفـرَّتْ فيه شروط المحقق الأمين كما أكد ذلك منظرو علم التحقيق، ومن ثـم فهو من رواده ومفخرةُ علمائه مشرقا ومغربا.

لم يحظ محمد بن تاويت الطنجي بترجمة وافية لحياته وتنقلاته وهجرته من المغرب إلى القاهرة وأنقرة وإستانبول، وإنما هي ترجمات مختصرة، منها ما كتبه للتعريف به الأستاذ عبد الله الجراري في كتابه “التأليف ونهضته بالمغرب في القرن العشرين” فقال عنه: “ابن تاويت الطنجي من أكبر الباحثين، وأنشط المحققين الذين لهم جولاتٌ علميةٌ وفنيةٌ في شتى الموضوعات الثقافية، نشأ نشأةً علميةً في بلده طنجة ثم رحل إلى الشرق في سبيل تحقيق بعض الكتب، واتصل بالبيئات العلمية فحاز تقديرها بما قام بتحقيقه من الكتب المنشورة تحت إشرافه…”، وأرى أن “السيد ابن تاويت لو بقِـيَ في المغرب لأفاد المعلمة المغربية خصوصا والموسوعة العالمية عموما بما يتوفر عليه من نشاط علمي، وولُوع بالبحث والتحقيق”.

كما ترجم له ابن عمه محمد بن تاويت التطواني ترجمة باهتة في معلمة المغرب فقال عنه: “ظهرت نجابة المترْجَمُ له في القرويين في دروس النحو والتوحيد… وانقطع إلى شيخنا العَـلَمِي انقطاعا كليا، يخدمه بانتساخ كتبه… بعد هذه المرحلة ذهبنا معا في بعثة علمية إلى مصر، حيث التحقنا بكلية الآداب…”، وتابع قائلا: “لم يكن في محمد بن تاويت الطنجي عيبٌ إلا أنه كان ينشـدُ الكمال في الناس… فهو رجلٌ قد قـدَّر الناسُ قدرَهُ وأحبه علماءُ الأتراك واحترموه في وزاراتهم وجامعاتهم”.

وحاولت الرابطة المحمدية لعلماء بالمغرب من خلال مركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراث سنة 2008، التعريف بالعلامة ابن تاويت الطنجي، لكنه كان تعريفا باهتا، لم يُـوفِّـه حقـه، لكن صاحب كتابة هذه الترجمة لم يشر إلى اسمه. كما أن تعريف الزركلي أيضا كان باهتا مع أن الزركلي كان متميزا في كتابة التراجم في كتابه “الأعلام”.

وكتب عنه الأستاذ عبد اللطيف شهبون، أستاذ بكلية الآداب بتطوان، في جريدة “الشمال” التي تصدر بطنجة، للتعريف به وبعطائه سنة 2000، لكنني لم أنجح في الحصول على هذه الجريدة.

ولعل أهـم منجز عُـنِـي بالعلامة محمد بن تاويت الطنجي تلكمُ الندوةُ العلميةُ التي أقامتها جمعية مكتبة عبد الله كنون ومجلة مواسم للثقافة والإبداع بطنجة في رحاب مدرسة الملك فهد العليا للترجمة خلال يومين دراسيين بتاريخ 16، 17 مايو 1997، فألـقـت بعض الأضواء على حياة هذا العلامة مع ارتسامات بعض العلماء الذين اتصل بهم وعرفهم في تركيا أو القاهرة، فكتب عنه من المغاربة الأستاذ عبد الوهاب بن منصور ومحمد بن شريفة ومحمد الكتاني وعبد الكريم غلاب وبنسالم حميش وعبد السلام شقور ومحمد كنون الحسسني وعبد الصمد العشاب، ومن المشارقة إحسان عباس، عزة حسن، أبو القاسم كرو وإبراهيم شبوح.

وصدرت أعمال هذه الندوة في كتاب عنوانه “الكتاب التكريمي عن فـقيد العلم والتراث محمد بن تاويت الطنجي”، ضمن منشورات مدرسة الملك فهد العليا للترجمة بطنجة، جامعة عبد المالك السعدي، سنة 1998.

في هذا الكتاب التكريمي ترجم له الأستاذ محمد كنون الحسني في موضوع عنوانه “العلامة محمد بن تاويت الطنجي: جوانبُ من حياته ونماذجُ من رسائله”، فعـرَّف به وبأسرته وعلمه ورحلته إلى الشرق، كما عـرَّف به الأستاذ عبد الصمد العشاب في مقال عنوانه “ترجمة الأستاذ محمد بن تاويت الطنجي”، تميزت بوضع لائحة لأعماله وتحقيقاته، مما يساعد على الاقتراب من هذا العلامة وأعماله في ميدان التحقيق.

وفي سنة 2011 أقامت كلية الإلهيات بأنقرة إحياء ذكرى ابن تاويت الطنجي تقديرا لهذه الشخصية العلمية التي خدمت التراث العربي والإسلامي من خلال المخطوطات التي اطلع عليها وحقق بعضها وترك مشاريعه العلمية بخزائنها عسى أن ترى النور مستقبلا.

نأمل أن يُحتفى بهذا العالم المحقق في الجامعات المغربية تذكيرا بعطائه وتعريفا به للشباب الذين لم تتح لهم الفرصة للتعرف إليه في دراساتهم، كما نأمل أن تعمل وزارة الثقافة على إعادة نشر تحقيقاته في المغرب، وعلى ربط الصلات مع كلية الإلهيات بأنقرة ومعهد المخطوطات بإستانبول حيث مشاريع تحقيقاته تنتظر من ينظر فيها ويعمل على إصدارها. دون أن أغفل تقديم شكري لوزارة الثقافة التي عملت على الاحتفاء بهذا العلامة في هذه الجلسة العلمية في إطار الدورة الثامنة والعشرين لمعرض الكتاب سنة 2023، وأن تعمل على نشر عروض هذه الندوة في مؤلف يضم شتاتها مع استكتاب أساتذة آخرين للمشاركة في هذا المؤلف.

من هو محمد بن تاويت الطنجي 1911ــ 1974؟

سأحاول لملمة خيوط التعريف بالعلامة محمد بن تاويت الطنجي كما استقيتها مما كتب عنه فـأقـول:

محمد بن تاويت الطنجي من قبيلة وادراس الريفية بشمال المغرب، من بيت علم وفضل وجهاد للمحتـل الإسباني، وكان والده محمد يعمل إلى جانب الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي الذي انتدبه لشغل منصب قاض شرعي في قبيلته، لكنه سيـرحل رفـقة أسرته إلى مدينة طـنجة بعد نَـفْيِ الأمير الخطابي وسيستـقـر بها مشتغلا بالدرس في مساجدها، زاهـدا في الدنيا.

ولد محمد بن تاويت الطنجي في قبيلته وادراس سنة 1911 كما ذكر مترجمه ابن عمه محمد بن تاويت التطواني، واختلفت الأقوال فقيل سنة 1918، والتحق بكتاب القرية فحفظ القرآن الكريم وبعض المتون الفقهية والنحوية، وسينـتـقـل مع والده إلى طنجة ليكبَّ على الدرس عند بعض علمائها، ولشغفـه بالعلم سيرحل إلى مدينة فاس سنة1931 للارتواء من معين علوم جامعة القرويين وعلمائها رفقة ابن عمه محمد بن تاويت التطواني ( ت1993)، وهناك تفـتـقـتْ قريحتُه ليجـد عند علماء القرويين أمثالَ العلامة أقصبي وابن الخياط وجواد الصقلي ما كان يصبو إليه من زاد معرفي وتراثي، وأحكم اتصالَه بالفقيه محمد العلمي الذي لازمه كثيرا في حلقات دروسه وانتـفـع بغزارة علمه، ولعل ما زاده ارتباطا به هو الثقةُ التي حَـظِيَ بها عند شيخه العَـلَـمِي، إذ كان يكلفه باستنساخ كـتبه، ولعل هذا العملَ هو ما شجعه على الاهتمام بالمخطوطات، خاصة عندمـا وجـد في عـملية استنساخ كتب شيخه مادةً ثريةً ستــدعـوه استقبالا للتهمُّم بالمخطوطات والبحث عن نفائسها في جامعة القرويين وفي دار الكتب المصرية بالقاهرة ثم بخزانات أنقرة وإستانبول.

وبعد فترة الطلب بالقرويين سيشتغل بالتعليم سنة 1936 بالمدرسة الأهلية بتطوان، وسيشارك مع زملائه في تصحيح ملازم كتاب “النبوغ المغربي للعلامة عبد الله كنون”، وكان ساعتها يُطبع بالمطبعة المهدية بتطوان، الذي سينشر سنة 1937، ووجد في ذلك ضالته من البحث والتنقيب، لكنه في سنة 1938 سـيـشُـد الرحلة إلى القاهرة ليتابع تعليمه العالي، فالتحق بكلية الآداب بالقاهرة بقسم التاريخ أو الجغرافيا ثم انتصر للالتحاق بقسم اللغة العربية مع زمرة من رفاقه المغاربة، منهم ابنُ عمه محمد ابن تاويت التطواني وعبد القادر السميحي ومحمد الريفي، ضمن بعثة مولاي الحسن بن المهدي العلمية، وحصل على الإجازة بتفوق سنة 1943، “ونال جائزة الشرف من الملك فاروق ملك مصر”، وسيشرف على رسالته لنيل درجة الماجستير الأستاذ أحمد أمين الذي اقترح عليه موضوع “تحقيق مقدمة ابن خلدون”، وكان هذا الموضوع طريقَهُ للانغماس في عالم المخطوطات وأثبتَ قدرتَـهُ على تناول الموضوع بمعارضته بنسخه المتوفرة مصححا ومعلـقا وشارحا.

واهتماما بابن خلدون وهو بعدُ في طور تحقيق رسالة الماجستير، انـتـدبته جامعة الدول العربية أول إنشائها لمعهد المخطوطات العربية “لحضور مؤتمر المستشرقين في لندن سنة 1945، وهي نفس السنة التي انتقل فيها إلى تركيا للعمل أستاذا بكلية الإلهيات بأنقرة”. وشغفا بابن خلدون، أقدم على تحقيق مؤلفه “التعريف بابن خلدون ورحلته غربا وشرقا”، وصدر ضمن منشورات لجنة التأليف والترجمة والنشر بالقاهرة التي كان يشرف عليها الأستاذ أحمد أمين سنة 1951، وتتابعت نشراته سنة 2000، 2004، 2009، كما اهتم بتحرير هذه الرحلة والتقديم لها الأستاذ نوري الجراح المشرف على سلسلة الأدب الجغرافي فيما يعرف بارتياد الآفاق، وصدرت سنة 2009.

ومن أساتذته بالقاهرة الأستاذ أمين الخولي، “وكان يتميز بالدقة في البحث والتنقيب عن الشارد من المعاني والأفكار، فهو يجمع بين فكر الأزهري المدقق والجامعي المتحرر”، وعلى هذا النهـج خَطَا الأستاذ ابن تاويت الطنجي خطواتٍ موفقةً في البحث والتنقيب والتفكير في كل الأعمال التي أنجزها تحريا وضبطا ومساءلة بعيدا عن الأحكام الجاهزة كما عُــرِف عنه، والأرجح أن نزاهةَ المحقق وإنصافَه الحقيقةَ في عمله لقيا كل تقدير من جانب أساتذته وأصدقائه من كبار العلماء والكتاب في مصر والمغرب وتركيا.

وللإشارة، فإن صفة الطنجي التي عُـرف بها الأستاذ محمد بن تاويت تعود إلى التمييز بينه وبين ابن عمه ابن تاويت التطواني، وقد جمعتهما حلقة الدرس بكلية الآداب بجامعة القاهرة (جامعة فؤاد الأول)، أما صفة الإمام التي كان يدعوه بها صديقه د. عـزة حسن، فـتعود كما يقول: “إلى أنه كان يُجَـلِّـي في الحديث على اختلاف معانيه وتشعّب مجاريه في كل وجـه من الـوجوه في أصناف المسائل بكلام عذب كالماء الصافي يتدفـق من ينبوع ثــرٍّ غــزيـر، ولذا صار الناس ينادونه بالإمام الطنجي جريا على عادة المسلمين الأولين في تبجيل علمائهم”، أما عن أخلاقه وعلمه فيضيف الدكتور عزة حسن: “رجلُ العلم والأخلاق، عرفْـتُه رَضِيَّ النفس، صادقَ الصداقة، خالصَ الود والمحبة، يوثر السكينة والهدوء، صموتا عن الخَـنى وهُـجر الكلام… عفيفَ اللسان والنفس واليد، كان قارئا كبيرا، راهبا في أقسام المخطوطات بالقاهرة وأنقرة وإستنبول [جنةُ المخطوطات العربية والإسلامية]… كان مغرما غـراما شديدا بآثار تراثـنا القديم في مختلف علومه وفنونه، ويتتبعها في كل مكان ويسعى للاطلاع عليها، وكان لذلك على علم واسع بذخائرها ونفائسها المكنونة في خزائن العالم فأحيا جملة من مآثرها بشغف وحب”.

يذكـر الأستاذ عبد العزيز الأهواني وفؤاد سيد وآخرون الأستاذ ابن تاويت الطنجي عندما غادر القاهرة إلى إستانبول: “إحاطـتَه العلمية وثقافته الإسلامية وصرامته العقلية وعـمق نظره، فقد كان من الرواد المؤسسين الذين جمعوا تلك المادة الجيدة الوفيرة من نفائس التراث الإسلامي التي قام عليها معهد المخطوطات العربية في نشأته الأولى، وعرَّفوا بها فيما عُــرِفَ بالفهرس التمهيدي”.

وفي أنقرة التي سيفـدُ إليها لتدريس علم الكلام الإسلامي بكلية الإلهيات بجامعتها سيقـضي فترات خصبة من حياته العلمية رفقة الأستاذ عزة حسن، ثم سيلتحق أستاذا بالمعهد العالي للدراسات التاريخية الإسلامية بإستانبول وقيل بكلية الآداب بجامعة إستانبول، وسيجد في خزائن إستانبول ما يروي غلته في البحث عن المخطوطات النادرة وتصويرها والاستفادة منها.

وفي سنة 1963، سيعود إلى وطنه المغرب ليقضي فترة عمل في حقـل التحقيق بالقسم الثقافي لوزارة الأوقاف ثم في وزارة الدولة المكلفة بالشؤون الإسلامية وكان يشرف عليها الأستاذ علال الفاسي (ت 1974)، فطلب منه تحقيق نصوص عديدة منها:

1ــ أولا: السلسلة اللغوية، وفيها تـمَّ إخراج كتاب جزء من “اختصار كتاب العين” للزَّبِـيدي.

2ــ ثانيا: السلسلة الدينية: ويندرج فيها كتاب “الإعلام بحدود قواعد الإسلام للقاضي عياض، وكتاب “الأربعين حديثا” للمنذري.

3 ــ السلسلة التاريخية: وعمل فيها على إخراج كتاب “المدارك للقاضي عياض” الجزء الأول.

ويشير الأستاذ محمد بن شريفة إلى تمكُّـنه من أدوات التحقيق في الأعمال التي أنجز تحقيقها: “وقدم لها بمقدمات فيها كثير من النضج العلمي، وفيها كثيرٌ من الجهد، فضلا عن أنها تبقى نماذجَ للتحقيق العلمي ومنهجيتِه في إخراج النصوص التراثية”.

فابن تاويت الطنجي ذو علم واسع، يهتم بالذخائر من المخطوطات فيسعى إلى الاطلاع عليها، مغرما بنفائسها المكنونة في خزائن العالم، ولا سيما خزائن إستنبول، كان راهبا في المكتبات النادرة كما يذكر العلماء ممن عرفهم واستأنس بصحبتهم في القاهرة أو أنقرة أو إستانبول.

وعلى الرغم من عودة ابن تاويت الطنجي إلى الوطن (سنة 1963)، إلا أنه لم يكن راضيا عن وضعه المادي بالمغرب، ولم يجد في وظيفـته بوزارة الشؤون الإسلامية ما يغـريه بالبقاء بوطنه، فضيقُ ذاتِ اليد، ولا مبالاة المسؤولين برجال العلم لإنصافهم، إضافةً إلى أن زوجته التركية لم توفَّـقْ في التأقلم مع المجتمع المغربي، فكانتْ رحلة العودة إلى إستانبول للاستقرار بها إلى أن وافته المنية بها في دجنبر 1974.

ابن تاويت الطنجي من الكفاءات المغربية التي اسـتـقـطبتها البلاد التركية وقبلها البلاد المصرية، ممَّا ضيَّع على المغرب والمغاربة هجرةَ عالم علاَّمة له خبرةٌ كبيرةٌ في تحقيق المخطوطات فـيفيد منه المغاربة طلابا وباحثين وأساتذةً على اختلاف مشاربهم، فآثر العودة إلى جامعة إستانبول ليشغـل منصب أستاذ لعلوم الثقافة الإسلامية وليعكف من جديد على صحبة ذخائر الخزانات التركية بحثا وتنقيبا واكتشافا إلى أن وافته المنية بعيدا عن وطنه، عن أهله وعشيرته.

إن هجرة هذا العالم الكبير لتؤكد لنا مع مرور الوقت أن من أسباب هجرة الأدمغة المغربية اليوم تهميشها والتضييق على الكفاءات العلمية التي تستقطبها الدول الغربية كأمريكا وأوروبا وآسيا وغيرها لـتـستـفيد من خبراتها، والأدلة على هذا الكلام واضحة للعيان، في الوقت الذي نحن في بلدنا في حاجة إليها بعد سنوات التكوين والإعداد عبر المراحل الدراسية في الوطن وخارجه.

ترك المترجَمُ له مكتبةً نادرةً تضم أنفس المخطوطات العربية والإسلامية؛ “تضم ذخائر مقـتـنياته ونفائس منتجاته…، وقد كثر الحديثُ عن مكـتـبته وكتبه، وقيلتْ في شأن هذه وتلك أقوال، وحيكـتْ حكاياتٌ لا تخلو من مبالغات ومغالاة، وأشفق الجميع أن يبقى تراثُه العـلمي بدار الغربة مثلما بقي بها جثمانه، واتجهتِ الأفكار والأنظار إلى جلالة الملك ليعمل على إرجاع تراثه الفكري إلى المغرب لقاء ما قُـوِّمتْ به من ثمن يؤديه من ماله الخاص”.

وعلى الرغم من مساعي الحكومة المغربية لاقـتـناء خزانته العامرة إلاَّ أنها باءتْ بالفشل، لأن المعهد العالي للدراسات التاريخية بإستانبول حرص على اقتنائها مقابل توفير بيت للسكن ومبلغ من المال لأرملته وابنته.

مؤلفات العلامة محمد بن تاويت الطنجي:

ـــ حقـق كتاب “التعريف بابن خلدون ورحلته غربا وشرقا” لابن خلدون، وهو أشهر مؤلفاته، وصدر عن لجنة التأليف والترجمة والنشر بالقاهرة سنة 1951، وتتابعت نشراته فيما بعد ضمن دور نشر عربية وغيرها، يقول عنه الدكتور نوري الجراح في إعادة تحريره للكتاب: “كان عمل ابن تاويت الطنجي من الدِّقـة العلمية والإشراق الفكري حيث أعاد بناء الكتاب بناء جديدا استدرك معه كل التغييرات والإضافات والشروح والملاحظات التي دوَّنـها ابن خلدون على مدار سنوات… وكلها تقع في باب استدراك العالـم القَـلِـقِ فـكرُه، والمفكـر الناقد…. لقد كان عمل ابن تاويت الطنجي ومراجعاته للنسخ المتعددة لكتاب التعـريف كما وضعها ابن خلدون عمل عـالم متـأنٍّ وباحث يتطـلع إلى الأكمل مؤملا أن يكون تحقيقه للتعريف أقرب إلى الصورة التي ربما طمح إليها ابن خلدون”، كما عمل الأستاذ إبراهيم شبوح على إعادة النظر في كتاب “التعريف” بتحقيق ابن تاويت الطنجي سنة 2009، وعمل على تحقيق مقدمة ابن خلدون وكذلك تحقيق تاريخه العبر مع الدكتور إحسان عباس.

ـــ حقـق كتابَ “المكاثرة عند المذاكرة” تصنيف جعفر بن محمد الطيالسي، من علماء بغداد الثقاة (ت282هـ)، والكتاب جزء صغير في باب الشعر والشعراء، نـشـر بمجلة معهد الدراسات الشرقية بإستانبول، العدد الأول سنة 1956، يقول الطنجي في مقدمة الكتاب: “والمؤلِّفُ تحت تأثير القصد إلى الفخر والمغالبة كان منساقا إلى حشد جمهرة من الأسماء ليحقق غرضه… وقد كان كتابه بعد أن عُـرِفَ مؤخرا مصدرا استفاد من مادته الباحثون المحدثون”، أما مؤلِّفُ الكتاب فيقول: “هذا كتاب فيه إغرابٌ على كثير من ذوي الآداب: جمعت فيه طرفا من أسماء الشعراء وألقابهم التي يتعارفها الناس ما بينهم، وأضفت إلى ذلك أسماء تُشابهُها، وألقابا تجانسها، مما جمعته على مرِّ الأيام من درس الكتب ومجالس شيوخ الأدب وسميته كتاب المذاكرة عند المكاثرة، إذ كان المذاكَـرُ به مكَـاثَـرا بما يُــزاد عليه مما لا يعرفه…”.

ــــ حقق كتاب “شفاء السائل لتهذيب المسائل” لابن خلدون، وهو كتاب يهتم بالتصوف والنظر فيما وراء الطبيعة، وهو مساهمة في المناظرة التي شارك فيها حول الموضوع، طبعته كلية الإلهيات بإستانبول سنة 1957، كما طبع مرات عديدة بتحقيقات مختلفة.

ـــ حـقـق الجزء الأول من كتاب “ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك” للقاضي عياض المتوفى سنة 544هـ، وصدر ضمن مطبوعات وزارة الأوقاف المغربية سنة 1965.

ـــ حـقـق كتاب “الإعلام بحدود قواعد الإسلام” للقاضي عياض، نشرته وزارة الشؤون الإسلامية سنة 1964 ثم أعيد طبعه سنة 1981.

ـــ أربعون حديثا في اصطناع المعروف لأبي محمد عبد القـويّ المنذري المتوفى سنة 256هـ، عـلق عليه وقدم له محمد بن تاويت الطنجي، وصدر ضمن منشورات وزارة الدولة المكلفة بالشؤون الإسلامية بالرباط سنة 1985.

ـــ حـقـق كـتاب “تحديد نهايات الأماكن لتحديد مسافات المساكن” لأبي الريحان محمد البيروني المتوفى سنة 440هــ، وطبع بأنـقـرة سنة 1960، وهو كتاب جغرافي هام.

ـــ حـقـق كتاب “أخلاق الوزيرين” لأبي حيان التوحيدي (ت 414هـ)، وهو كتاب في الأدب والنقـد، صدر ضمن مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق سنة 1965، كما صدر ضمن طبعة دار صادر ببيروت سنة 1992.

ـــ حـقـق كتاب “جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس وأسماء رواة الحديث والأدب وذوي النباهة والشعر” لأبي عبد الله محمد الحميدي (ت 528هـ)، طبع بمطبعة السعادة بالقاهرة سنة 1953.

ـــ أول من اكتشف مخطوط كتاب “المقتطف من أزاهـر الطرف” لابن سعيد الأندلسي المتوفى سنة 684هـ، وإنصافا للأستاذ ابن تاويت الطنجي، فقد جاء في خاتمة الكتاب المطبوع نص رسالة خطية أوردها محقق الكتاب الأستاذ سيد حنفي من الأستاذ ابن تاويت الطنجي إلى الأستاذ عبد العزيز الأهواني يخبره بحصوله على نسخة أو جزء مفصل من “كتاب المقتطف” بمقدمة صاحبه يقول فيها: “ولما كمُلَ هذا المجموعُ كمال البدر في إشراقه واهتـز اهتزازَ الغصن في أوراقه، وآن إخراجُه للوجود: سميته: كتابَ المقتطف من أزاهر الطرف، وبالله الإعانة”، هذه المقدمة التي أوردها الأستاذ الطنجي لصاحب الكتاب تدل على أن الطنجي ألـمَّ بالعمل في المخطوط إلماما. ولا شك أنه اشتغل عليه فترة من حياته، لكنه لم يعمل على نشره، وبذلك ضاع جهده كما أشار إلى ذلك الأستاذ العشاب، وقد استفاد منه وحققه مؤخرا الدكتور محمد سيد حنفي، وصدر عن الهيأة المصرية العامة للكتاب بالقاهرة سنة 1984.

ـــ نـشـر بحثا مطولا عن “كتاب التعازي والمراثي” للمبرد ونشرته مجلة “المورد” العراقية، المجلد الثالث، العدد الرابع، سنة 1974.

ــ كما كتب مقالات علمية لمعهد المخطوطات العربية بالقاهرة بطلب من مديرها الأستاذ صلاح الدين المنجد، ومقالات أخرى لمجلة مجمع اللغة العربية بدمشق.

أما بالاشتراك، فساهم في تحقيق الكتب الآتية:

ـــ حـقـق مع العلامة علال الفاسي نص “مختصر العين” للزبيدي الإشبيلي المتوفى سنة 379هــ، وهو من منشورات مكتبة الوحدة بالدار البيضاء.

ـــ حـقـق “ديوان الأمير أبي الربيع سليمان الموحدي” بالاشتراك مع ابن عمه ابن تاويت التطواني ومحمد بن العباس القباج وسعيد أعراب، وصدر ضمن منشورات كلية الآداب، جامعة محمد الخامس بالرباط.

ومع الأسف، أغلب الكتب التي حققها العلامة محمد بن تاويت الطنجي ونشرت بالقاهرة أو أنقرة أو إستانبول لا تتوفر عليها المكتبة الوطنية، أما المتوفـر منها بالمكتبة الوطنية فهو: جذوة المقتبس، التعريف بابن خلدون، أخلاق الوزيرين.

ويذكر الأستاذ أيمن فؤاد السيد، المشرف على معهد المخطوطات العربية بالقاهرة، أنه اطلع على مجموعة من دراساته وجذاذاته التي كان يشتغل بها قصد تحقيق كتاب الفهرس لابن النديم، وكانت له مصدرا لتوظـيفها فيما بعد لنشر هذا الفهرس الذي أصدرته مؤسسة الفرقان بلندن، لكن المؤسف أن السيد أيمن فؤاد السيد لم يذكر اسم ابن تاويت في غلاف الكتاب مع اسمه، وإنما أشار في مقدمة التحقيق إلى جهود ابن تاويت، وهذا يُعَـدُّ غــبْـنا في حق هذا العالم.

ويذكر الأستاذ أيمن فؤاد السيد أيضا أنه اطلع على مراسلاته للمعهد الذي كان ينجز له مصورات المخطوطات المتوفرة في وقف الديانة التركي بأوسكودار بإستانبول، وكذلك مجموعة من صوره عبر مراحل حياته المختلفة.

رحم الله هذا العلامة المحقق الذي لمع اسمه في عالم تحقيق التراث العربي الإسلامي وكان له فضل السبق بالنظر فيه وجـمْع ما توصل إليه من مخطوطات في القاهرة وإستانبول وفي المغرب، رحمه الله وأحسن إليه.

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق مصر بالفئة الأعلى دوليًا بالمؤشر العالمي للأمن السيبراني للاتحاد الدولي للاتصالات
التالى 1342 مدرسة تستقبل أكثر من 825.7 ألف طالب بالعام الدراسي الجديد ببني سويف